فصل: تفسير الآيات (104- 105):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (97- 98):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [97- 98].
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ} أي: لإحراقه: {بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} أي: الأذلين بإبطال كيدهم، جعل النار عليه برداً وسلاماً.

.تفسير الآية رقم (99):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [99].
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي: مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي، وأعصم فيه ديني. قال الرازي: فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء، تجب مهاجرته؛ وذلك لأن إبراهيم عليه السلام، مع ما خصه تعالى به من أعظم أنواع النصرة، لما أحسّ من قومه العداوة الشديدة، هاجر، فلأن يجب على غيره، بالأولى. وقوله: {سَيَهْدِينِ} أي: إلى ما فيه صلاح ديني، أو إلى مقصدي. وإنما بتّ القول لسبق وعده تعالى؛ إذ تكفل بهدايته، أو لأن من كان مع الله كان الله معه «احفظ الله يحفظك».

.تفسير الآيات (100- 101):

القول في تأويل قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [100- 101].
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} أي: ولداً صالحاً يعينني على الدعوة والطاعة: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} أي: متسع الصدر حسن الصبر، والإغضاء في كل أمر، والحلم رأس الصلاح، وأصل الفضائل.

.تفسير الآية رقم (102):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [102].
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي: السن الذي يقدر فيه على السعي والعلم: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} أي: إني أمرت في المنام بذبحك- ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة- فانظر هل تصبر على إمضائي أمر الرؤيا والعمل بظاهرها؟: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: يأمرك الله به، فإن كان ذاك أمراً من لدنه فأمضه.
قال القاضي: ولعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأموراً به، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق، وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، ثم قال: ولعل الأمر في المنام دون اليقظة، لتكون مبادرتها إلى الامتثال، أدل على كمال الانقياد والإخلاص. انتهى.
قال الرازي: الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب، أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم، حيث يراه قد بلغ في الحِلم إلى هذا الحد العظيم، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية، ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة، والثناء الحسن في الدنيا. وقوله: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي: على الذبح، أو على قضاء الله.

.تفسير الآية رقم (103):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [103].
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي: استسلما وانقادا لأمره تعالى بدون إبطاء، واستلّ إبراهيم السكين، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: صرعه على شقه، فوقع جبينُه على الأرض، وهو أحد جانبي الجبهة. وتله أصل معناه: رماه على التّل، وهو التراب المجتمع. كتربه. ثم عم لكل صرع.

.تفسير الآيات (104- 105):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [104- 105].
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أي: لا تذبحه وقد قمت بمصداقها في بذل الوسع من الأخذ بإمضاء ما تشير إليه، وكمال الطاعة في هذا الشاقّ، وأوتيت أجر الامتثال، والصبر، والثبات. وفي جواب لما ثلاثة أوجه، أظهرها أنه محذوف، أي: نادته الملائكة، أو ظهر صبرهما، أو أجزلنا لهما أجرهما، الثاني في أنه: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} بزيادة الواو وهو رأي الكوفيين والأخفش، الثالث أنه: {وَنَادَيْنَاهُ} والواو زائدة أيضاً {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي: باللطف، والعناية، والنداء، والوحي، والفرج بعد الشدة.

.تفسير الآية رقم (106):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ} [106].
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ} أي: الاختيار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، إشارة إلى أن هذا الأمر كان ابتلاءً وامتحاناً لإبراهيم في صدق الخلة لله، وتضحية أعز عزيز لديه، وأحب محبوب عنده، لأمر ربه تعالى.

.تفسير الآية رقم (107):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [107].
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: رزقناه ما يذبح بدلاً عنه وفداء له، منّة وتطولاً. وقد روي أنه عليه السلام لما نودي، حانت منه التفاتة إلى ما حوله، فأبصر كبشاً قد انتشب قرناه في شجرة، فتم به المرئي في المنام المقصود به القربان لله.

.تفسير الآيات (108- 113):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [108- 113].
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي: مثل ما تركنا على نوح. كما تقدم بيانه وإعرابه: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} أي: على إبراهيم: {وَعَلَى إِسْحَقَ} أي: بتكثير الذرية وتسلسل النبوة فيهم، وجعلهم ملوكاً، وإيتائهم ما لم يؤت أحد: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} أي: في عمله: {وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أي: بالكفر والمعاصي: {مُبِينٌ} أي: ظاهر الظلم.
تنبيهات:
الأول- يروي المفسرون هاهنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصح سندها ولا متنها، بل ولم تحسن، فهي معضلة تنتهي إلى السدي وكعب. والسدي حاله معلوم في ضعف مروياته، وكذلك كعب.
قال ابن كثير رحمه الله: لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده. انتهى.
ولقد صدق رحمه الله، ولذا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروري له، إلا إذا صح سنده، أو اطمأن القلب به. وقد ولِع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين، ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها، وكون متنها منكراً أيضاً أو موضوعاً، ولما صنفتُ مجموعة الخطب حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مروي ضعيف في فضائل الشهور والأوقات، واقتصرتُ على جياد الأخبار والآثار، وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه.
وأمثل ما روي في هذا النبأ من الآثار ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً، قال: لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك، عرض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة السلام إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، ثم تلّه للجبين، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض، فقال له: يا أبت! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه، فعالجه ليخلصه، فنودي من خلفه: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أَعْيَن. قال ابن عباس: لقد رأيتُنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش.
الثاني- قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن، وتقديم المشيئة في كل قول، واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده، لزمه ذبح شاة. ثم قال السيوطي: فسر الذبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش، فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل. انتهى.
الثالث- استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه- كما ذكره الرازي- وذلك في باب الابتلاء، أي: ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه، فيما يشق على النفس تحمله.
الرابع- يذكر كثيرٌ الخلافَ في الذبيح، قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه- بكره، وفي لفظ: وحيده- ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده.
والذي غرّ أصحابَ هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق. قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم؛ لأنها تناقض قوله: بكرك، وحيدك. ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختارونه دون العرب. ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 70- 71]، فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه. ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة، فتَناوُلُ البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد. وهذا ظاهر الكلام وسياقه.
فإن قيل، لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجروراً عطفاً على إسحاق، فكانت القراءة: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاق يَعْقُوب} أي: ويعقوب من وراء إسحاق. قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشراً به؛ لأن البشارة قول مخصوص، وهي أول خبر سارّ صادق. وقوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} جملة متضمنة بهذه القيود، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية. أو لما كانت البشارة قولاً، كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول. كأن المعنى: وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب. والقائل إذا قال: بشرت فلاناً بقدوم أخيه، وثقله في أثره، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعاً. هذا مما لا يستريب ذو فهمٍ فيه البتة. ثم يضعف الجر أمر آخر، وهو ضعف قولك: مررت بزيد ومن بعده عَمْرو؛ لأن العاطف يقوم حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور، كما لا يفصل بين حروف الجار والمجرور، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة، قال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 103- 111]، ثم قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]، فهذا بشارة من الله له، شكراً على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدًّا في أن المبشر به غير الأول. بل هو كالنص فيه.
فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، أي: لما صبر الأب على ما أمر به، وأسلم الولد لأمر الله، جازاه الله على ذلك، بأن أعطاه النبوة. قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده وأن يكون نبياً، ولهذا ينصب: {نَبِيّاً} على الحال المقدر أي: مقدراً نبوته، فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة. هذا محال من الكلام. بل إذا وقع البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوه أولى وأحرى، وأيضاً فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، تذكيراً لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله.
ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النحر بمكة، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زماناً ومكاناً، ولو كان الذبح بالشام، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة، وأيضاً فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليماً؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه عليماً، فقال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذرايات: 24- 25] إلى أن قال: {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذرايات: 28]، وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السرية.
وأيضاً فإنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد. وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك، وأيضاً فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده. وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلاً. والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها. فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره الجليل بذبح المحبوب. فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة؛ إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه، فقد حصل المقصود، فنسخ الأمر، وفُدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب.
ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار، إنما حصل عند أول مولود، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة، ما يقتضي الأمر بذبحه. وهذا في غاية الظهور. وأيضاً فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة، فإنها كانت جارية، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة. فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة، ليبرّد عن سارة حرارة الغيرة. وهذا من رحمته ورأفته. فكيف يأمره سبحانه بعد هذا، أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها، وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟
بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها. وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتاً، هذه وابنها منهم، ويرى عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد، والوحدة، والغربة، والتسليم، إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت عليه، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة. وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، انتهى.
وقال السيوطي في الإكليل: واستدل بقوله تعالى بعد: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112]، من قال إن الذبيح إسماعيل، وهو الذي رجحه جماعة، واحتجوا له بأدلة: منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده، والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق، وغير ذلك، وهي أمور ظنية لا قطعية، ثم قال: وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقترب منه- ولم أر من سبقني إلى استنباطه- وهو أن البشارة وقعت مرتين، مرة في قوله تعالى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 99- 102]، فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح. ومرة في قوله: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] الآية. فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق، ولم يكن بسؤال من إبراهيم. بل قالت امرأته إنها عجوز، وإنه شيخ، وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره. أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد، ولذلك سأله. فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين، بغلامين: أحدهما بغير سؤال، وهو إسحاق صريحاً. والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره. فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح. انتهى.